بين مغامرة القدس وإرث السلام المؤجَّل، يطل أنور السادات من صفحات التاريخ كأنه ما زال بيننا؛ رجل بسيط الملامح شديد الجرأة، جمع بين دهاء الفلاح المصري وحِسّ الزعيم العالمي. حين خطا أولى خطواته نحو القدس في نوفمبر 1977، لم يكن يدري أحد هل يصفّق له أم يهاجمه، لكنه فتح بابًا للتاريخ لم يُغلق حتى الآن. إرثه، الذي يتأرجح بين سلام لم يكتمل وحلم ما زال معلّقًا، يكشف لنا اليوم أن ما جرى لم يكن مجرد زيارة أو خطاب، بل لحظة فارقة غيّرت وجه المنطقة إلى الأبد.
وفي قلب تلك اللحظة، تتجلّى فلسفة السادات في الحرب: أن القتال لا يكون غاية، بل وسيلة لاستعادة الكرامة، وأن السلام لا يُصنع بالمدافع، بل بالوعي الذي يتجاوزها. كانت نظرته أعمق من النصر العسكري، فقد رأى في الحرب خطوة على طريق أطول، طريق يمرّ من الميدان إلى الوجدان، ومن الدم إلى الكلمة التي تُصلح ما أفسدته البنادق.
عزيزي القارئ، يظل أنور السادات شخصية مثيرة للجدل في تاريخ مصر والشرق الأوسط. فقد مدحه البعض حتى اعتبروه نبيًّا مبشّرًا بالسلام، بينما لعنته فئات أخرى ورأت فيه خائنًا. ورغم مرور أكثر من أربعة عقود على اغتياله في أكتوبر 1981م، فإن الجدل حوله ما زال حيًا، وكأن مصر لم تستطع حتى اليوم أن تحسم صورتها النهائية عن الرجل وإرثه. والسادات نفسه حاول غير مرة أن يقدّم صورته للعالم ولشعبه من خلال كتبه وخطاباته وحواراته، لكن هذه المحاولات لم تمنع استمرار الخلاف على تقييمه.
جزء من هذا الجدل راجع إلى أن المستقبل الذي بشّر به السادات لم يتحقق بالكامل. فاقتصاد مصر وإن شهد بعض علامات التعافي، إلا أنه لم يصل بعد لمرحلة الرخاء التي حلم بها المواطن العادي. أما السلام مع إسرائيل، فرغم أنه ثبت على الحدود المصرية، إلا أن الفلسطينيين لم يجنوا ثماره كما توقعوا، وهو ما ألقى بظلال من الشك والرفض على مسيرة السلام ذاتها. ولذلك ظل كثيرون يربطون إرث السادات بوعود لم تكتمل، وبعمليات سياسية واقتصادية ما زالت مستمرة حتى اليوم، مما جعل النقاش حوله يظل قائمًا ومتجددًا، وكأنه مرآة يُنتقد من خلالها الحاضر أكثر من الماضي.
ما يصعّب الحكم على السادات أنه كان رجل تناقضات: يستطيع أن يجلس مع الفلاح البسيط كما يتعامل مع كبار الرؤساء في العالم. كان حاضرًا وسط الصحافة العالمية بحيوية وذكاء، لكنه في الوقت نفسه لم يتردد في سجن آلاف من معارضيه. هذه المفارقات جعلت المؤرخين في حيرة من أمره، وجعلت صورته بين العظمة والاستبداد متشابكة ومعقّدة.
السادات تعلّم السياسة من الداخل المصري، ولم يكن مجرد قائد عالمي منفصل عن جذوره. فمن خلال تجربته في الداخل اكتسب حسّه المرهف بالتوقيت السياسي، وفهم قيمة اللقطة الرمزية والقرار المفاجئ. عرف كيف يصنع صورة إعلامية، وكيف يجذب الناس بخطوة محسوبة، دون الحاجة إلى انتخابات مفتوحة أو معارك كلامية طويلة. والأهم أنه عرف كيف يكسب الثقة، لا بالقوة الجارفة ولا بابتزاز خصومه، بل بخليط من التواضع والجرأة، وبقدرة على بناء الثقة تدريجيًا مع خصومه قبل أصدقائه.
رحلته بدأت من الكلية الحربية عام 1936م، حين فُتحت أبوابها لأول مرة أمام أبناء الطبقة الوسطى. هناك التقى بجيل غاضب من أبناء صغار الموظفين والتجار، الذين حملوا معهم إلى الجيش أصداء الحراك الشعبي في الشوارع. انخرط السادات في حركات سياسية متعددة: من الإخوان المسلمين إلى "مصر الفتاة" إلى جماعة الحرس الحديدي، حتى وصل في النهاية إلى تنظيم "الضباط الأحرار". ودفع ثمنًا باهظًا عندما سُجن خلال الحرب العالمية الثانية بسبب اتصالاته مع الألمان ضد الاحتلال البريطاني، لكنه خرج ليستأنف طريقه، ويصبح أحد الوجوه البارزة في ثورة يوليو 1952م.
ورغم أن مكانته بدت هامشية لسنوات طويلة، حتى أن البعض سخر منه ووضعوا رسومًا كاريكاتورية تستهزئ به، إلا أن قدرته على الصبر والمناورة جعلته يظل حاضرًا في المشهد. وعندما تولى الرئاسة عام 1970م بعد وفاة جمال عبد الناصر، لم يتوقع كثيرون أن يصمد طويلًا. بل إن أجهزة استخبارات عالمية قدّرت أنه لن يستمر أكثر من ستة أشهر. لكن السادات فاجأ الجميع.
منذ اللحظة الأولى أظهر دهاءً سياسيًا غير مسبوق. قضى على خصومه في الداخل، وفتح قنوات خفية مع الولايات المتحدة، معلنًا استعداده للتخلي عن التحالف مع السوفييت. وفي يوليو 1972م طرد الخبراء السوفييت من مصر، في خطوة جريئة لم يكن أحد يتوقعها. ثم جاءت اللحظة الفاصلة في السادس من أكتوبر 1973م، حين فجّر مفاجأة العبور وحطّم أسطورة خط بارليف، ليرفع الروح المعنوية لشعبه ويضع نفسه على الخريطة الدولية لاعبًا لا يمكن تجاهله.
هذه الحرب، رغم تعقيداتها، فتحت أمامه أبواب الدبلوماسية العالمية، فوجد نفسه في مواجهة مباشرة مع هنري كيسنجر وغيره من كبار السياسيين الدوليين. ومن هنا بدأ السادات يبني تحالفاته الجديدة، خاصة مع الولايات المتحدة، مدركًا أن استعادة سيناء وتطوير الاقتصاد المصري لن يتحققا إلا عبر دعم قوة كبرى. فنسج علاقات مع السفراء الأمريكيين ومع أربعة رؤساء أمريكيين متعاقبين، مستخدمًا ذكاءه في مخاطبة كل واحد منهم بالطريقة التي ترضيه وتكسب ثقته.
ثم جاء رهانه الأكبر عام 1977م عندما اتخذ قراره التاريخي بزيارة القدس. خطوة صدمت العالم كله، لكنها نقلته من خانة "القائد العسكري المنتصر" إلى خانة "زعيم السلام". صحيح أن المفاوضات لم تنهِ الصراع العربي–الإسرائيلي كليًا، ولم تُحقق الرخاء الموعود للمصريين، إلا أنها ضمنت لمصر حدودًا آمنة، ودعمت موقعها الإقليمي، وفتحت أبواب المساعدات والاستثمارات الغربية.
إرث السادات ما زال محل نقاش حتى اليوم: هل كان رجل سلام سبق عصره، أم مقامرًا سياسيًا اندفع بعيدًا عن إرادة شعبه؟ المؤكد أنه ترك بصمة لا تُمحى في التاريخ المصري. فمنذ عهده، لم تعد مصر مهددة عسكريًا على حدودها الشرقية، وحصلت على مساعدات بمليارات الدولارات طوّرت بنيتها الأساسية. ومن قريته البسيطة "ميت أبو الكوم" انطلق ليصبح أحد أبرز قادة القرن العشرين، يثير الجدل حتى بعد رحيله، وكأن حياته نفسها تحوّلت إلى قصة سياسية لا تنتهي.
[email protected]